الأسباب[عدل]
بسبب السرية البالغة في التحضير لها -إذ لم يعرف بها مسبقاً إلا أربعة: محمد علي ولاظوغلي وصالح قوش وطاهر باشا قائد الألبان- فلا يعرف بالضبط من صاحب الفكرة ودور كل واحد إلا أن تاريخ محمد علي في الخديعة والمكر منذ كان في بلده يشى أنه لم يكن محتاجا لمن يشير عليه بالمؤامرة. أما أسبابها فقيل أن سبب غدر محمد علي بمن استأمن إليه إنما هو لوقوفه على مكاتبتهم لمناوئيه مثل بكوات المماليك في الصعيد ووالى الشام سليمان باشا الكرجي وكان معادياً له ودأب على تأليب الباب العالى والمماليك ضده وكان محمد علي قد صادر هذه المكاتبات من المماليك أنفسهم. وقيل أن الإنجليز هم من حرضوا محمد علي على الفتك بالمماليك انتقاماً منهم لخذلانهم لهم إبان حملة فريزر 1807م وقيل أن محمد علي إنما فعلها بناءً على أوامر الباب العالى.
ولكن يبدو أن محمد على لم يفكر في الغدر بالمماليك إلا في 1811م حيث كان قبل ذلك يجتهد في محاولة الاتفاق معهم بعقد مفاوضات عدة بينه وبينهم انتهت إلى اتفاقات طالما نقضوها وكان يهدف من اتفاقه معهم تأمين حكمه واستخدام فرسانهم الأقوياء في محاربة الوهابيين إذ كان يعانى من ضعف وقلة فرسانه وجرب محمد علي معهم العديد من الأساليب فقد حاربهم وسالمهم وأقطعهم الإقطاعيات ومساواته لهم بكبار قادته.
وفى نوفمبر (1809) وبعد هجوم محمد علي على المماليك بالصعيد خضع هؤلاء لشروط صلح يقضى بأن يدفعوا الميري وكل الإتاوات والقروض الاستثنائية ويغادروا الصعيد ، لكنهم سرعان ما نقضوا هذا الصلح فأخذوا يماطلون في تنفيذه ويطلبون مهلة بعد أخرى حتى يسووا شؤونهم في الصعيد وما لبث الباشا أن ارتاب فبهم إذ بلغه أن هناك اتصالاات بينهم وبين دول أجنبية كفرنسا وبين شاهين بك الألفي والإنجليز وكان شاهين يطلب منهم ارسال جيش إلى مصر أو على الأقل يمدوه بأموال يستخدمها في تحريض الجند والناس ضد محمد علي لعله يصل إلى الحكم.
لذلك هدد محمد علي باستئناف القتال إن لم ينفذوا الاتفاق فاضطروا إلى الحضور إلى الجيزة في مايو 1810م لكنهم لم يركنوا للباشا فأخذ إبراهيم بك يسول لشاهين بك الألفي نكث عهده مع الباشا بل وأغرى كبار رجال محمد علي بالخروج عليه، واستجاب له شاهين فأنضم لهم شاهين بك بمماليكه مقابل حصوله على رئاسة بيت مراد بك وبذلك تتأتى له رئاسة المماليك كلهم، وهكذا لاح أمام محمد علي شبح اتحاد المماليك جميعهم ضده لأول مرة. ساءت العلاقات بين الطرفين وتأهبا للحرب إلا أن الباشا فضل الانتظار حتى يحل الفيضان فتغمر المياه الأراضى فيتعذر على المماليك الاستفادة من تفوقهم في الفرسان واستغل الوقت المتبقى من مايو حتى حلول الفيضان في ارسال حملة لتطهير الصعيد من المماليك الذين تخلفوا فيه. وفى الوقت نفسه نشط رسله في الإيقاع بين المماليك المتجمعين ضده في الجيزة، ونجحوا في إقناع فريق منهم بقبول الصلح مع الباشا وتوجه إليه بعض المماليك الأمراء بمماليكهم مستأمنين، وتزايدت الوحشة بين الطرفين.
وما إن ارتفعت مياه الفيضان حتى بدأت المعارك الحاسمة التي دارت عند الهوارة واللاهون في مديرية الفيوم في يوليه وأغسطس (1810م) وانتهت إلى هزيمة المماليك ومقتل الكثيرين منهم وأسر آخرين كما انضم كثيرون منهم إلى الباشا ومنهم زعيمهم الجديد شاهين بك الذي حضر للقاهرة مستأمناً للمرة الثانية، فأكرمه الباشا، ووعده بإعادته إلى مناصبه السابقة إذ يبدو أن الباشا كان حتى ذلك الوقت لم يكن غير سياسته تجاه المماليك، وهى إغراء المماليك بطاعته والترحيب بمن يحضر منهم إليه معترفا بسلطانه وضمهم لقادته وإلحاق فرسانهم بجيشه الذي يزمع إرساله للحجاز، وفى الوقت نفسه كان يعتزم تعقب البكوات الآخرين المخالفين لتشريدهم والتنكيل بهم لإجبارهم عل الاعتراف بسلطانه. لكن تآمر الفريقين معاً عليه المخالفين والمستأمنين جعله يغير سياسته ويعمل على القضاء عليهم جميعاً.
إذ أملى ذلك على الباشا عاملان: العامل الأول، دفع الباب العالى له لمحاربة الوهابيين وتلويحه له بتوريث باشوية مصر لأسرته مثل وجاقات الغرب مقابل هذه المساعدة أما العامل الثاني وقوف الباشا على تآمر المستأمنين في فبراير(1811م) على الفتك به وهو عائد في الصحراء إلى القاهرة من السويس حيث كان يشرف على إعداد السفن، اللازمة لنقل جنوده إلى الحجاز، وقد أفسد الباشا هذه المؤامرة بالعودة بسرعة إلى القاهرة قبل الموعد المتوقع لكن هذه المؤامرة يبدو أنها جعلته يغير سياسته تجاه المماليك ويقرر الفتك بهم قبل أن يفتكوا به. وعلى أية حال فربما يعزى قلة ومحدودية معارضة المصريين لمحمد على طوال مدة حكمه التالية على المذبحة (لم تحدث سوى انتفاضات في القاهرة( 1822-1823 )وفى جهات متفرقة من الوجهين البحري والقبلي أعوام (1823 )و( 1838-1839م) واستطاع محمد علي إخمادها دون أن تتطور إلى معارضة حقيقية لحكمه) إلى الأثر النفسي للمذبحة التي يبدو أنها أخافت المصريين من محمد علي وقضت على أية امكانية لنشوء ديموقراطية في مصر بسبب الرعب الذي انتشر من شخص محمد علي مدبر المذبحة.
الأحداث[عدل]
جاءت لمحمد علي باشا دعوة من الباب العالي لإرسال حملة للقضاء على حركة الوهابيين في نجد، دعا زعماء المماليك إلى القلعة بحجة التشاور معهم وتكريم الجيش الذاهب للحملة، وفي يوم الحفل (1 مارس 1811) استعد (محمد علي) للحفل وجاء زعماء المماليك بكامل زينتهم يركبون على أحصنتهم. بعد أن انتهى الحفل الفاخر دعاهم محمد علي لكي يمشوا في موكب الجيش الخارج للحرب.
يتقدم الموكب جيش كبير من الأحصنة التي يركبها جيش محمد علي باشا بقيادة ابنه (إبراهيم بك)، ثم طلب محمد علي من المماليك أن يسيروا في صفوف الجيش لكي يكونوا في مقدمة مودعيه. بالطبع نحن نعلم أن أرض القلعة الآن ليست مثل عام 1811 فكانت الأرض غير ممهدة ويصعب السير عليها وكانت الرؤية صعبة ومحجوبة على أمراء المماليك حيث كان يسير أمامهم جيش كبير من الرجال.
وفي هذه اللحظة خرج الجيش من باب القلعة وأغلقت الأبواب، أما الحراس الذين كانوا يعطون ظهورهم للمماليك استداروا لهم، وانطلقت رصاصة في السماء، ولم ينتبه المماليك إلا بعد فوات الأوان ! فقد كانت هذه هي الإشارة لبدء مذبحة لن ينساها التاريخ يوماً، وانهال الرصاص من كل صوب وحدب على المماليك.
والسر وراء اختيار باب "العزب" ليكون مسرحا لمذبحة القلعة والتي راح ضحيتها أكثر من خمسمائة رجل من رؤوس المماليك وأعيانهم هو أن الطريق الذي يؤدى إلى باب العزب ما هو إلا ممر صخرى منحدر تكتنفه الصخور على الجانبين، حيث لا مخرج ولا مهرب، لقد كان الأمر خدعة انطلت على المماليك ونفذتها مجموعة من جنود محمد علي باشا بإحكام، ففى ذلك المكان وكما جاء في كتاب "تاريخ عصر المماليك" للمؤرخ عبد الرحمن الرافعى قام محمد علي بدعوة أعيان المماليك إلى احتفال كبير بمناسبة تنصيب ابنه طوسون على رأس حملة متجهة إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين، وقد لبى المماليك الدعوة وركبوا جميعا في أبهى زينة وأفخم هيئة، وكان عدد المدعوين حينها يزيد على عشرة آلاف شخص من كبار القوم ومختلف الطوائف، وسار الاحتفال على ما كان عليه الحال حينها في مثل هذه المناسبات من طعام وغناء إلى أن نادى المنادي برحيل الموكب، فعزفت الموسيقى وانتظم قرع الطبول، عندئذ نهض المماليك وقوفاً، وبدأ الموكب يسير منحدراً من القلعة، وكان يسبق المماليك كوكبة من جنود محمد علي باشا ومن ورائهم كان يسير جنوده الفرسان والمشاة وعلى إثرهم كبار المدعوين من أرباب المناصب المختلفة.
سار الموكب منحدراً إلى باب العزب، ولم يكد هؤلاء الجنود يصلون إلى الباب حتى ارتج الباب الكبير وأقفل من الخارج في وجه المماليك وتحول الجنود بسرعة عن الطريق، وتسلقوا الصخور على الجانبين، وراحوا يمطرون المماليك بوابل من الرصاص، أخذت المفاجأة المماليك وساد بينهم الهرج والفوضى، وحاولوا الفرار، ولكن بنادق الجنود كانت تحصدهم في كل مكان، ثم انهالت الطلقات مدوية من أمامهم ومن خلفهم ومن فوقهم تحصد أرواحهم جميعاً بلا رحمة، حتى قيل أن عدد القتلى في هذه الواقعة قارب الخمسمئة ومن نجا منهم من الرصاص فقد ذُبِح بوحشية، فقد سقط المماليك صرعى مضرجين في دمائهم، حتى امتلأ فناء القلعة بالجثث، ولم ينج ــ كما يقال ــ من هذه المجزرة سوى أمين بك الذي هرب بحصانه من فوق أسوار القلعة، واختلف حوله المؤرخون فقيل أنه كان في مؤخرة الركب لما شعر ببداية إطلاق النار قرر الفرار إلا أنه لم يكن أمامه سوى سور القلعة لذلك أخذ فرسه وقفز به من فوق سور القلعة وسقط حتى اقترب من الأرض قفز من فوق حصانة ليترك حصانة يلقى مصيره بينما نجى هو واتجه بعدها إلى بلاد الشام.
أما الرواية الثانية لهرب أمين بك فتحكي أنه جاء متأخراً إلى الحفل فوجد باب القلعة قد أغلق فشعر بالمكيدة فأخذ فرسه وهرب به إلى بلاد الشام وخلد قصته جورجي زيدان في روايته "المملوك الشارد". بينما كان هناك مملوك آخر يدعى علي بك السلانكلي لم يحضر الحفلة بسبب انشغاله في أحد القرى وبالتالي لم ينج سوي هذين المملوكين.
وصل خبر تلك المذبحة إلى الجماهير المحتشدة في الشوارع لمشاهدة الموكب فسرى الذعر بينهم، وتفرق الناس، وأقفلت الدكاكين والأسواق، وهرع الجميع إلى بيوتهم، وخلت الشوارع والطرقات من المارة، وسرعان ما انتشرت جماعات من الجنود الأرناؤوط في أنحاء القاهرة يفتكون بكل من يلقونه من المماليك وأتباعهم، ويقتحمون بيوتهم فينهبون ما تصل إليه أيديهم، وتجاوزوا بالقتل والنهب إلى البيوت المجاورة.
وكثر القتل، واستمر النهب، وسادت الفوضى ثلاثة أيام، قُتل خلالها نحو ألف من المماليك ونُهب خمسمائة بيت، ولم يتوقف هذا إلا بعد أن نزل محمد علي إلى شوارع المدينة، وتمكن من السيطرة على جنوده وأعاد الانضباط. وهكذا استطاع محمد علي باشا الانفراد بالحكم.
بقي مكان مذبحة القلعة الذي ما زالت تخيم عليه رائحة الموت شاهدا على ما حدث، ورغم مرور كل هذه السنوات فما زال يشعر كل من يعبر أمامه بالرهبة والانقباض وكأنه يحتفظ بين أحجاره وزواياه بصرخات المستغيثين من الموت.
ولم ينج من المماليك الأربعمائة والسبعين الذين دخلوا القلعة في صبيحة ذلك اليوم إلا أثنين هما "أحمد بك " و "أمين بك" كانا في مؤخرة الصفوف، واستطاع الأخير أن يقفز بجواده من فوق سور القلعة، وهرب بعد ذلك إلى الشام. كان زعيم المماليك إبراهيم بك في طرة وهرب عقب علمه بالمذبحة إلى السودان.
إرسال تعليق