الحمل والطفل
pregnancy

0



۞الصراع الداخلي والنزعات الاستقلالية كانت بوابة الاحتلال الأجنبيدخلت مصر في زمن محمد علي باشا وخلفائه طورا من الاستقلال الفعلي لا يميل مؤيدوه لنسبة مزاياه إلى الحكم العثماني كما لا يحب معارضوه نسبة عيوبه إلى العثمانيين، لاسيما أن الوالي دخل في مواجهة عسكرية ضد الحكم المركزي في إسطنبول إلى أن حصل على حكم مصر له ولورثته، وظلت دائرة الاستقلال تتسع وكان من المفارقة أنها أصبحت بوابة للاحتلال الأجنبي الذي بدأ تسلّله بمهادنة الخديوي إسماعيل لأوروبا والتقرب إليها للحصول على تأييدها للاستقلال عن الدولة العثمانية في الوقت الذي كان الخطر متأتيا من الاحتلال الأوروبي الأجنبي وليس من تركيا الضعيفة كما يشير لذلك المؤرخ المصري المعروف عبد الرحمن الرافعي [38].
۞احتلال بريطانيا لمصر كان بداية العداوة العميقة بين الدولة العثمانية والإنجليزرغم الخيط الضعيف الذي ظل يربط الولاية المصرية بالحكم المركزي فإن المراجع التاريخية تُجمِع على أن احتلال بريطانيا لمصر 1882 كان الحد الفاصل بين زمنين في العلاقات العثمانية البريطانية التي كانت فيما سبق تقوم على الانسجام الظاهري لمدة طويلة نتيجة التزام بريطانيا بالدفاع عن فكرة وحدة الأراضي العثمانية منذ معاهدة باريس بعد حرب القرم 1856 ثم تغيرت الأمور بعد تخلي بريطانيا عن هذا المبدأ بعد الحرب العثمانية الروسية ومؤتمر برلين 1878 واتجاهها إلى احتلال أراض عثمانية كانت قبرص هي بوابتها 1878 ثم لما وقع احتلال مصر أصبحت بريطانيا في موقع العدو الكريه بالنسبة للسلطان العثماني الذي “كان عنيفا في كرهه للإنجليز” وأصبح ينتهج سياسة معادية لهم ويجمع المؤرخون (ومنهم الدكتور عبد العزيز الشناوي والدكتور جوني منصور والدكتور وليد الخالدي والمؤرخ شوكت باموك والمؤرخ موريس جاسترو) على أن احتلال مصر قد غيّر مكانة بريطانيا في الدولة العثمانية عامة وعند السلطان عبد الحميد خاصة والذي أصابه هذا الاحتلال بألم حز في نفسه مدى الحياة وبات معاديا لبريطانيا وكارها للإنجليز بعنف كما يقول المؤرخ إرنست رامزور ومتوجسا منهم أكثر من توجسه من الروس أعدائه التقليديين [39] وأصبحت سياسته توصف بكونها Anti-British أي معادية لبريطانيا التي عزى إليها مشاكله السياسية مع الأقليات [40]، ولم يكن يفوت فرصة للعمل ماديا ومعنويا ضد الاحتلال البريطاني في مصر والسودان كما يذكر الدكتور محمد حرب [41] أو ضد مصالح بريطانيا كما يذكر ذلك المؤرخ جون هاسلب [42]، وذلك خلافا للأفكار الأيديولوجية التي حاولت بشكل مناف للطبيعة أن تصور تواطؤا عثمانيا بريطانيا لتسهيل احتلال بريطانيا لمصر، وكل ما في الأمر أن ضعف الدولة العثمانية شلّ يدها عن الدفاع العسكري المفترض عن ولايتها الأثيرة ولهذا اتسمت سياسة السلطان بالحيرة والتخبط إذ منح قائد الثورة المصرية دعما واضحا برتبة الباشوية ثم عاد وأعلن عصيانه، وفي الحالين كان الهدف هو درء الاحتلال واتباع التجارب المتناقضة لتحقيق هذا الهدف ولكن الإصرار البريطاني على اقتحام مصر أبطل مفعول كل المحاولات العثمانية التي يتبين مغزاها فيما بعد من السياسة الواضحة التي اتبعها السلطان عبد الحميد تجاه الحركة الوطنية المصرية ودعمه غير المحدود لزعيمها مصطفى كامل باشا مما بيّن أنه ليس هناك أي تنسيق مزعوم مع الاحتلال والأمر لا يتعدى سنّة الضعف الطبيعية، والعجيب أن تتوجه الاتهامات للسلطان عبد الحميد نتيجة موقفه من عرابي باشا ولا توجه نفس هذه الاتهامات لوجوه نهضوية وتغريبية بارزة اتخذت مواقف سلبية من عرابي نفسه كالشيخ محمد عبده وأحمد فارس الشدياق وأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد ولكن مواقفهم كانت نتيجة انسجام أصحابها مع السياسة البريطانية وليس مناوأتها، ومع ذلك لم يوجه أحد إليهم تهمة ولا اعتراضاً وهو أمر مثير للشبهة.
۞ تمسك شعب مصر بالجامعة الإسلامية ينفي تهمة الاحتلال عن الدولة العثمانية حتى آخر لحظاتهاظلت السيادة الاسمية على مصر للدولة العثمانية منذ وقوع الاحتلال إلى اندلاع الحرب الكبرى الأولى 1914 حين ألغت بريطانيا هذه التبعية وأعلنت سلطانا في مصر لمناوأة منصب السلطان العثماني ولكن من الطريف أن السلطان حسين كامل كان يتمتع بصلاحيات أقل من سلفه الخديوي عباس وكل ما في الأمر هو زيادة الألقاب والنياشين الرمزية التي اتسمت بها دولة التجزئة دون مضمون حقيقي، وقد رفض شعب مصر السلطان الذي عينته بريطانيا وحاول اغتياله أكثر من مرة بالإضافة إلى محاولة اغتيال وزرائه، وكان ذلك بسبب رفض المصريين تبعية السلطان الألعوبة لبريطانيا واستمداده الشرعية من الاحتلال بعدما كان الخديوي يستمد شرعيته من خليفة المسلمين، وتشير المراجع التاريخية إلى أن الشعب المصري في زمن الاحتلال التف حول القيادة الوطنية المتمسكة بفكرة الجامعة الإسلامية التي دعا إليها السلطان عبد الحميد، وفي ذلك يقول الدكتور رؤوف عباس إن مصر في مطلع القرن العشرين كانت تتبنى فكرة الجامعة الإسلامية التي كانت بندا رئيسا في طرح الحزب الوطني، ومضمونها هو الحفاظ على سلامة الأراضي العثمانية ووحدتها وانتماء مصر إلى دولة الخلافة الإسلامية، ذلك أن الحزب الوطني بنى نضاله على أساس عدم شرعية الوجود البريطاني في مصر الخاضعة للسيادة العثمانية، وكان التمسك بالتبعية العثمانية هو طوق النجاة من الاحتلال البريطاني، كما كان التحزب للجامعة الإسلامية التي دعا إليها السلطان عبد الحميد مواكبا للتمسك بالتبعية العثمانية وغالبا على فكرة القومية المصرية التي دعا إليها أحمد لطفي السيد بخجل قبل الحرب الكبرى الأولى، كما كان التحزب للجامعة الإسلامية رفضاً لفكرة القومية العربية بصفتها دعوة إلى تمزيق أوصال الدولة العثمانية إلى كيانات قومية، ووصل التمسك بالجامعة الإسلامية درجة عالية إلى حد أن موقف غالبية المصريين كان مؤيدا للدولة العثمانية في صراعها مع بريطانيا على حدود مصر الشرقية رغم أن بريطانيا زعمت الحفاظ على حقوق مصر 1906 [43]، وفي هذا الموقف يتبين إدراك شعب مصر لحقيقة الصراع بين دولته الإسلامية والغرب ويحدد من الذي كان حاميا ومن الذي كان مستعمِرا، ولا يمكن بعد ذلك أن نتهم الدولة العثمانية بالاحتلال أو نصم شعبا كاملا بالغفلة وعدم إدراك الواقع ثم نسقط صفات من زمن لاحق على ماض لم يكن يشعر بذلك مع أن هذا كان دأب التغريب المتعالي والمرتبط بالاستعمار الحقيقي.
۞ الدولة العثمانية لم تسلم أراضيها لقمة سائغة وهُزمت بعدما بذلت جهداً جاهداًدخلت الدولة العثمانية في الحرب الكبرى الأولى (1914-1918) بهدف كسر القيود الأوروبية التي كبلت قرارها السياسي ونهبت مواردها الاقتصادية واحتلت بلادها عسكريا، وكان الهدف الواضح هو استعادة ما احتله الحلفاء وعلى رأس ذلك مصر، فقام جمال باشا بحملة ضخمة لعبور قناة السويس واسترجاع مصر 1915 ولكن الحملة فشلت ومنيت بالهزيمة، وعلى كل حال فإن مجهود الدولة العثمانية في الحرب الكبرى يدحض تهمة أنها سلّمت بلادها لقمة سائغة لأوروبا، وتبقى بعد ذلك موازين القوى خاضعة لعدة عوامل ولكن لا يمكننا بكل الأحوال لوم كبير السن بسبب عجزه إذ كانت الدولة العثمانية في تلك الفترة تصارع سكرات الموت بعدما عاشت عمرا من أطول أعمار الدول في التاريخ وصمدت صمودا رائعا في جبهات الحرب الكبرى سواء في القوقاز أو البلقان أو إسطنبول أو العراق أو فلسطين أو الجزيرة العربية وحققت انتصارات مذهلة أدهشت أعداءها وأصدقاءها على السواء ولكن لكل أجل كتاب (وما إن طبنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا) ولا يمكن أن نتوقع من دولة بلغت هذا الهرم أن تنتصر على قوانين الطبيعة أو أن تخلد إلى الأبد ولا يمكن أن نلومها بسبب اتفاق زمن نهايتها مع زمن مطالع الدول الغربية وعنفوان قوتها كما ذهبت لهذا المضمون بعض الاتهامات والمطالبات غير الواقعية بانتصار دولة بلغت من الكبر عتيا على الدول الحديثة في أوروبا (وما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً).
۞ النموذج المصري بين فاعلية التكامل والوحدة وعجز الاستقلال والتجزئةيؤكد الدكتور عبد الوهاب المسيري مقولة الدكتور جمال حمدان بعد دراسته المستفيضة لتاريخ مصر: “إنه لا نهضة لمصر دون أن تكون جزءا من كيان سياسي أكبر” [44]، إن سجل الوحدة زاخر بالنجاح الفعلي والإنجاز العملي في زمن الخلافة، الضعف والتراجع طارئ عليه، أما سجل التجزئة والاستقلال فليس فيه سوى أحلام وأماني خيالية لم يتحقق منها غير الهزيمة والفشل والتراجع، والنجاح الفعلي هو الطارئ والمؤقت وظروفه خاصة، وعند المقارنة التاريخية بين ريادة مصر ودورها الفاعل عندما كانت “تابعة” لدولة الخلافة حين أنقذت المسلمين من المجاعة في عام الرمادة ثم أصبحت مركزا للخلافة (ومن المفارقات أن ليبرالية التغريب ترفض حتى هذه المركزية لمصر باسم الهوية المستقلة) ثم هزمت حملات الفرنجة الصليبية وصدت الغزو المغولي لتعود مركزا للخلافة ثانية ثم أصبحت الولاية الأولى في دولة الخلافة العثمانية مقدمة على الأناضول وأوروبا العثمانية، وبين فشلها وتراجعها زمن “الاستقلال” الذي صنعته بريطانيا حين سقط حكام مصر ضحية مشاريعهم لاستقلالها فدخل المسلمون في صراع داخلي أذكته أوروبا بين مصر والدولة العثمانية فتحطم الاثنان، ثم وقعت مصر تحت براثن الإفلاس ثم الهيمنة الأوروبية ثم الاحتلال البريطاني ولم تحقق نجاحا مؤقتا إلا اعتمادا على اختلاف الدول العظمى التي لم تلبث أن تكالبت عليها (1967) لتلحقها بمصالحها ثانية وتتخذ منها أداة للسيطرة على المنطقة العربية وتمرير السياسات الأمريكية وقيادة التطبيع مع الصهاينة وتدمير دولة عربية (1990-2003)، ومع ذلك لم تمكّنها كل هذه الخدمات من تحقيق مصالحها الوطنية الضيقة فكبل اقتصادها بالقروض والمساعدات والإصلاح الاقتصادي على حساب الاكتفاء الذاتي والمصالح المصرية وذلك لخدمة السياسة الأمريكية، ولعل المثل الأبرز في هذا المجال بيع النفط والغاز المصرييْن للكيان الصهيوني بخسارة لمصر بلغت ملايين الدولارات يومياً في حالة الغاز، وهو عبء كبير على الاقتصاد المصري المنهك أصلا ومع ذلك فقد ضحت الدولة “المستقلة” بمصالحها الوطنية المباشرة لأجل مصالح الأقوياء، وقبلت كذلك بالتعاون العسكري الأمريكي الصهيوني الذي وصفه مبارك بالكارثة على الدول العربية المعتدلة وبالعقبة في طريق السلام (6/12/1983) ثم اضطر للاستسلام، والتزمت مصر بمعاهدة السلام مع الصهاينة “على الرغم من الانتهاكات الإسرائيلية للاتفاقية” كما قال مبارك (11/3/1984)، ومنحت تسهيلات للقوات الأجنبية في مياهها ضد سيادتها وضد البلاد العربية الأخرى، بالإضافة إلى عجزها عن فرض رؤيتها لترتيبات أمنية عربية في الخليج بعد حرب الكويت واستسلامها للوجود الأمريكي هناك [45]، هذا إذا لم نذكر تحييد دورها وتهميشه وتأمين جانبها أثناء شن الصهاينة حروبهم ضد أشقائها العرب (1982و2003 و 2006)، هذا إذا لم تشارك في العدوان فعليا (1991 و 2008)، وإذا استدعينا نموذجاً بسيطاً لا يتطلب طموحات كبرى ومع ذلك يدل على مدى عجز دولة التجزئة مهما كبر حجمها عن الخروج على إملاءات الدول الكبرى، فسنجد ذلك على الحدود بين الأراضي الفلسطينية ومصر، حيث استمرار التوتر فيها رغم تعاقب الأنظمة ذات الهويات المختلفة يؤكد أن عداوة الإخوة والجيران هو منطق دولة التجزئة المقيدة بسياسات الكبار التي تمنعها حتى من تحقيق مصالح قُطرية صغيرة كتبادل تجاري محدود، بين الأشقاء والأقارب في مدينة واحدة مقسمة بشكل هزلي بأمر الكبار، وذلك حين تقتضي المصالح الغربية ذلك المنع، ويصبح الأخ أداة لخنق أخيه الواقف خلف الحدود، إكراما لتسلط الأجنبي وغطرسته واحتلاله، ولهذا فإن أية مراهنة على تحقيق أي نجاح نهضوي مهما صغر بواسطة الدولة القُطرية لن يكون مصيرها سوى إفساد المراهنين وجرهم إلى مستنقع المساومات فهزيمة كل مشاريعهم، إذ مهما تغيرت هويات الحكام سيجدون أنفسهم مقيدين بقلة إمكانات كيانات التجزئة التي التزموا بها ومن ثم عدم قدرتهم على تنفيذ أحلامهم وتحدي الأعداء الكبار، وسواء كانت الأحلام قومية واسعة أو إسلامية أوسع أو وطنية ضيقة لتوحيد شطري دولة أو حتى الحفاظ على وحدتها أو تحقيق مصالحها الوطنية لن يكون حاكم التجزئة في كل ذلك إلا أداة تطبق ما تقبله سياسات الكبار بغض النظر عن مشروعه وآماله.
 ومما له دلالة أن دولة التجزئة الوطنية المصرية في عز سلطانها وقمة عنفوانها لم تستطع الحؤول دون فقدانها جميع مكملاتها ومقتضيات مصلحتها (السودان 1956، سوريا 1961، غزة وسيناء 1967) أمام التآمر الأجنبي وهو ما لا يضاهي في زمن الوحدة التي جسدتها الخلافة الإسلامية إلا أشد عصورها تراجعا وهزيمة وضعفا عندما كانت تفقد ولاياتها واحدة تلو الأخرى أمام الاحتلال الأجنبي، ومع ذلك يسجل لدولة الخلافة أنها لم تعترف بكل إجراءات الاستعمار في العالم العربي حتى وقّعت على ذلك وتنازلت عنه تركيا الكمالية (1923)، كما أن الدولة الوطنية المصرية في أبهى عصورها عندما تحدت العدوان الثلاثي في جو من التأييد العالمي لم تستطع إلا أن تطالب بالحقوق التي شرعتها اتفاقيات قناة السويس زمن الخلافة في أضعف حالاتها (اتفاقية القسطنطينية 1888)، كما جاء في تصريح الحكومة المصرية في 24 إبريل/نيسان/أفريل 1957 [46]، ولم تقدر على ما هو أفضل من ذلك رغم كل الظروف العالمية المواتية، وإذا كانت الدولة الوطنية أكثر عزاً من زمن الخلافة حتى بأضعف حالاته، فلماذا لم تفرض شروطاً أفضل على أعدائها وعلى المجتمع الدولي؟ وكل ما سبق يحسم الخلاف والجدال عن “ضرورة” الدولة القُطرية و”أهميتها”، فوقوف المرء في صف متراص مع الإخوة لا يلغي الذات أو يمحوها بل يعزز موقفها ويقويها، والوقوف “مستقلاً” وحيداً هو الذي يمهد لافتراس المرء وزواله بجعله عرضة لهجوم أي وحش عابر في الغابة التي نعيش فيها، ولهذا نرى أن المرء عندما يريد إبراز قوته أمام الأغراب يعتز بانتمائه إلى أسرة أو قبيلة أو دولة تمنعه ولا يمكنه الاستقواء بعضلاته وحدها في مواجهة تكالب الأعداء.
۞ النتيجة                    تؤدي محصلة دراسات المؤرخين الجديدة التي قلبت رأسا على عقب الأحكام الاستشراقية التي تحدثت عن التخلف والركود والتراجع والاحتلال الذي أصاب مصر في العصر العثماني أن الحكم العثماني جاء بمزايا لمصر صحبتها عيوب مثل كل الدول في التاريخ، ولكن المزايا كانت بارزة إلى درجة أن استمرت بها مكانة مصر التاريخية رغم تحولها من قاعدة دولة إلى ولاية في دولة أخرى لاحقة، ومع هذا استمرت مركزيتها الاقتصادية وشهدت نمواً عمرانياً ملحوظاً، وكانت مسيرة التطور الحضاري مستمرة ولا تنطبق عليها صفة الاستغلال الاستعماري من جهة الدولة العثمانية وكانت المسيرة ستأتي أكلها بعوامل النمو الذاتي لولا أن قطع الغرب طريقها وعرقل عوامل تقدمها وهي الجريمة الأبرز للاستعمار قبل وبعد سفكه الدماء ونهبه الموارد وحكمه الظالم، ثم غرس فينا أفكاراً من صناعته اختلقت في مرحلة متأخرة عن ظلم العثمانيين ليبيض صفحته ويبذر الشقاق بين أمتنا، وفي جميع الأحوال فإنه لا يجوز قراءة الوقائع العثمانية عموماً وفق أفكار لم تكن موجودة في العصر العثماني ويجب عدم الاعتراض على أي ظاهرة وتصنيفها عيباً وفق مقاييس لاحقة أو حتى وفق مقاييس لا تطبق إلا حسب الأهواء، لاسيما أن العثمانيين لم يفرضوا لغة أو نظاماً أو طابعاً اقتصادياً خاصاً بهم على ولاياتهم، وكان معظم خراج مصر ينفق فيها، وكانت العلاقة عكسية بين تركيز السلطة واحتكار الثروة، ويتبين من قراءة التاريخ العثماني في مصر بإمعان خلل القراءات الأيديولوجية سواء الليبرالية أو الماركسية أو القومية التي أرادت سكب التاريخ في قوالبها بدلاً من استنطاق حقائقه ووقائعه التي تبين بصورة جلية أن فاعلية مصر ومكانتها وقوتها كانت في زمن اندماجها بإخوتها أعلى وأكبر من زمن احتفي فيه “بالاستقلال” والشخصية الوطنية دون أرضية تبرر ذلك ودون إنجازات تدعم المكانة المتراجعة، وأن شعب مصر تمسك حتى اللحظة الأخيرة بالجامعة الإسلامية والولاء العثماني ضد الاستعمار الأوروبي لأنه لم يكن يرى في الدولة العثمانية أي نوع من أنواع الاحتلال وبهذا يتبين مدى انفصال التغريب عن قواعد الأمة حين قلب المعادلة وجعل الدولة العثمانية احتلالاً والاستعمار الغربي تنويراً رغم أن هذا الحكم يعاكس الحقائق العلمية التي تحدثت عنها الوثائق.

إرسال تعليق

 
Top